الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
إن الذي يمسح على رأس اليتيم يكون صاحب حظ عظيم في الثواب، ومن يكفل اليتيم فهو مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة. والذي يقدر ذلك هو الله سبحانه العليم بالخفايا حسب نية الشخص الذي يقوم بهذا العمل؛ فقد يتقرب واحد من يتيم ويتكلف العطف والحنان بينما يقصد التقرب إلى أم اليتيم؛ لذلك فمناط الجزاء ومناط الثواب هو في النيّة الدافعة والباعثة على العمل. ولا يكفي أن يقول الإنسان: إن نيّتي طيبة، ولا يعمل؛ فالحديث الشريف يقول: «إنما الأعمال بالنيّات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه».أي لابد من ارتباط واقتران النيّة بالعمل؛ لأن الله يريد منا أن نعمل الخير وبذلك يعدي الإنسان الخير من نفسه إلى غيره وهذا هو المطلوب، فوجود النيّة للخير وحدها لا يكفي، وإن افتقد الإنسان النيّة وأدّى العمل فغيره يأخذ خيره ولا يأخذ هو شيئًا سوى التعب. فإن أراد الإنسان أن يكون له ثواب فلابد من وجود نيّة طيبة، وعمل صالح.ولم يقل الحق: {وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم}؛ لأنه سبحانه عليم لا بعد أن نصنع العمل بل بكمال قدرته يعلم قبل أن نصنع الخير، وكل شيء كان معلومًا لله قبل أن يخلق الوجود، ولا ينتظر سبحانه إلى أن يقوم الإنسان بالعمل حتى يحصل ويحدث منه العلم. بل إنه- جل شأنه- يعلم كل شيء علما أزليّا؛ لذلك قال: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا}؛ لأن كل أمر برز في الوجود إنما كان على وفق ما علمه الله أزلًا قبل أن يوجد الوجود.وفي المجال البشري نرى المهندس يتلقى التعليمات من صاحب الأرض الخلاء ويقول له: صمم لي قصرًا صغيرًا على مساحة كذا ومكونًا من كذا حجرة. وعدد محدود من دورات المياه، وبعد ذلك يصمم المهندس الرسم الهندسي على الورق حسب أوامر صاحب الأرض. وقد يكون صاحب الأرض دقيقا فطنا غايةً في الدقة فيقول للمهندس: إنني أريد أن تصنع لي نموذجا صغيرًا قبل البناء بحيث أرى تطبيقًا واقعيًا بمقياس هندسي مصغر، وأن تبنى الحجرات بقطاعات واضحة حتى أرى ألوانها وكيفيتها.هكذا العالَم قبل أن يوجد، كان معلوما علما تفصيليا بكل دقائقه وأبعاده عند خالقه، والنماذج المصغرة التي يصنعها البشر قد يقصر البشر فيها عن صناعة شيء لعدم توافر المواد، كالنجار الذي يقصر في صنع حجرة نوم من خشب الورد لندرته، فيستعيض بخشب من نوع آخر، وذلك خلل في علم وقدرة المنفذ. أما خلق الله فهو يبلغ تمام الدقة؛ لأنه سبحانه هو الصانع الأول. هذا ما يجب أن نفهمه عندما نقرأ: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا}. اهـ.
قال شهاب الدين: وفي هذا الجواب نظرٌ.والنَّصْبُ بإضمار فِعْل، أي: ويبيِّن لَكُم ما يُتْلى عليكم؛ لأنَّ {يُفْتيكُم} بمعنى يبيِّن لكم، واختار أبو حيَّان وجْهَ الجرِّ على العَطْفِ على الضَّمير، مختارًا لمَذْهَبِ الكوفيِّين قال: لأنّ الأوْجُه كلَّها تؤدِّي إلى التَّأكيد، وأمَّا وَجْهُ العَطْفِ على الضمير المَجْرُور، فيجعلُه تأسِيسًا، قال: «وإذا دار الأمْرُ بينهما؛ فالتَّأسيس أوْلى»، وفي إفْرَادِ هذا الوَجْهِ بالتَّأسيس دُونَ بَقِيَّةِ الأوْجُه نظرٌ لا يَخْفى.قوله: {فِي الكِتَابِ} يجوزُ فيه ثلاثةُ أوْجُهٍ:أحدها: أنه مُتَعَلِّقٌ بـ {يُتْلى}.والثاني: أنه متعلِّقٌ بمحْذُوفٍ على أنه حَالٌ من الضَّمِير المُسْتَكِنِّ في {يُتْلى}.والثالث: أنه خَبَر {مَا يُتْلى} عَلَى الوَجْه الصَّائِر إلى أنَّ {مَا يُتْلى} مبتدأ، فيتعلق بمَحْذُوف أيضًا، إلاَّ أنَّ مَحَلَّه على هذا الوجهِ رفعٌ، وعلى ما قَبْلَه نصبٌ.قوله: {فِي يَتَامَى النساء} يجوزُ فيه ثلاثةُ أوْجُهٍ:أحدُها: أنه بَدلٌ من {الكِتَاب} وهو بدلُ اشْتِمَالٍ، ولابد مِنْ حَذْفِ مُضَافٍ، أي: في حُكْم يَتَامَى، ولا شك أن الكِتابَ مشتملٌ على ذِكْرِ أحكامِهِن.والثاني: أن يتعلَّق بـ {يُتْلَى}.فإن قيل: كيف يجُوزُ تعلُّقُ حَرْفَيْ جرٍّ بلفظ وَاحِدٍ، ومعنى واحِدٍ؟فالجوابُ أنَّ مَعْنَاهما مُخْتَلفٌ، لأن الأولى للظَّرْفية على بابها، والثانية بمعنى البَاءِ، للسببية مَجَازًا، أو حقيقةً عِنْد مَنْ يقولُ بالاشتراك.وقال أبو البقاء: كما تَقُولُ: «جئتُك في يوم الجُمْعَة في أمْرِ زَيْدٍ».والثالث: أنه بَدَل من {فِيهِنَّ} بإعادة العَامِل، ويكون هذا بَدَل بَعْض من كُلٍّ.قال الزَّمَخْشَرِيُّ: «فإنْ قُلْت: بِمَ تعلَّق قوله: {في يتامى النِّسَاء} قلت: في الوَجْه الأوَّل هو صِلَةُ {يُتْلى} أي: يُتْلى عَلَيْكُم في مَعنَاهُنَّ، ويجُوز أن يكُون {في يتامى} بَدَلًا من {فيهنَّ}، وأما في الوَجْهَيْن الأخِيرَيْن فبدلٌ لا غير» انتهى، يَعْنِي بالوجْه الأول: أن يكون {مَا يُتْلَى} مَرْفُوعَ المَحَلِّ.قال أبو حيَّان: أمَّا ما أجازه في وجه الرفع من كونه صلة {يتلى} فلا يجُوزُ إلاَّ أنْ يكونَ بَدَلًا مِنْ {فِي الكِتَابِ} أو تكون {في} للسَّبَبية، لئلا يتعلّق حَرْفا جر بلفظٍ واحد، ومعنى واحد، بعاملٍ واحدٍ، وهو ممتنعٌ إلاَّ في البَدَل والعَطْفِ، وأمَّا تجويزُه أنْ يكونَ بَدَلًا من {فيهن} فالظاهرُ أنه لا يجُوز؛ للفَصْلِ بين البَدَلِ والمُبْدَلِ منه بالمَعْطُوف، ويصير هذا نظير قولك: «زيدٌ يقيمُ في الدَّارِ، وعمرو في كِسْرٍ مِنْهَا» فَفَصَلْتَ بين «فِي الدَّارِ» وبين «في كِسْرِ» بـ «عمرو»، والمَعْهُودُ في مثل هذا التَّرْكيب: «زيدٌ يقيمُ في الدَّارِ في كِسْرٍ منها وعمرو».الرابع: أنْ يتعلَّق بنفس الكِتَاب أي: فيما كَتَب في حُكْم اليَتَامَى.الخامس: أنه حَالٌ فيتعلَّق بمَحْذوفٍ، وصاحبُ الحالِ هو المَرْفُوعُ بـ {يُتْلى} أي: كائنًا في حُكْم يتامَى النِّسَاء، وإضافةُ {يَتَامى} إلى النِّساء من باب إضافةِ الخاصِّ إلى العَامَّ؛ لأنهن يَنْقَسمْن إلى يتامَى وغَيْرِهِن.وقال الكُوفيُّون: هو من إضافة الصِّفَة إلى المَوْصُوف؛ إذا الأصلُ: في النِّساء اليتامى كقولك: يوم الجمعة وحق اليقين، وهذا عند البَصْريِّين لا يجُوزُ، ويُؤوِّلُون ما وَرَدَ من ذَلِك؛ ولأن الصفة والموصُوف شيء واحدٌ، وإضافة الشيء إلى نفسه محَالٌ.وقال الزَّمَخْشَرِيُّ: فإنْ قُلْت: إضافة اليَتَامَى إلى النِّسَاء ما هِيَ؟ قلت: هي إضافةٌ، بمَعْنَى: «مِنْ» نحو: سُحْقِ عِمَامةٍ.قال أبو حيَّان: والذي ذكره النَّحوِيُّون من ذلك إنَّما هُو إضافة الشَّيْء إلى جِنْسِه، نحو: «خاتمُ حَدِيدٍ» ويجوزُ الفَصْل: إمَّا بإتباع، نحو: «خاتمٌ حديدٌ»، أو تنصبَه تَمْييزًا، نحو: «خاتمٌ حديدًا»، أو بجره بـ «مِنْ» نَحْو: «خاتم من حَديدٍ»، قال: والظَّاهِر أن إضافة «سُحْقِ عِمَامةٍ» و{يَتامَى النِّساء} بمعنى: اللام، ومعنى اللام: الاخْتِصَاص.وهذا الردُّ لَيْس بشيء، فإنهم ذَكَروا في ضَابِط الإضَافة التي بِمَعْنى مِنْ أن تكونَ إضَافَة جُزْءٍ إلى كُلٍّ، بشرطِ صِدْقِ اسمِ الكُلِّ على البعْضِ، ولا شك أن {يَتَامَى} بَعْض من النِّسَاء، والنِّسَاء يَصْدُق عَلَيْهِنَّ، وتحرَّزْنَا بقولنا: بشرط صِدْقِ الكُلِّ على البَعْض من نحو: يَدُ زَيْد فإنَّ زيدًا لا يَصْدُقُ على اليَدِ وحْدَها.
|